vendredi 17 février 2012

الديموقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام... الفصل بين خطاب إسلامي عربي وآخر غير عربي؟ (راشد الغنوشي)

الديموقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام... الفصل بين خطاب إسلامي عربي وآخر غير عربي؟ ( نقلا عن الحياة اللندنية)  
راشد الغنوشي*

   كل ما هو مصلحة للعباد وخير وعدل ومعقول لا يمكن إلا أن يجد له مكاناً مريحاً في الإسلام، مثل مبادئ الحكم الديموقراطي وحقوق الإنسان، إلى سائر النظم والترتيبات الإدارية والإنتاجية التي ثبت نفعها للناس، وذلك إما في نصوصه الصريحة أو في مقاصده الثابتة، وبصرف النظر عن بعض الجزئيات القليلة المختلفة مع ما ورد في الإعلانات والعهود الدولية لحقوق الإنسان والتي يحدث حول بعضها الاختلاف داخل الديموقراطيات الغربية نفسها، مثل العقوبات على بعض الجنايات كجناية القتل العمد، هل يعاقب عليه بالقصاص أم بالسجن أم بالدية أم بعفو ولي الدم؟ ومن مثل الضوابط على العلاقات الجنسية ومنها العلاقات الزوجية، عدا جزئيات محدودة فإن الاتجاه العام هو التوافق والانسجام.
            .
                                                
 ونحن نؤكد أن هذا هو الاتجاه العام للحركة الإسلامية في العالم، الاتجاه صوب التوافق مع الإرث الإنساني لا التصادم، الاتجاه صوب الاعتدال ورفض العنف سبيلاً للمعارضة أو نهجاً في الحكم، إلا أن يكون دفعاً للاحتلال، والقبول بالتعددية السياسية وسائر مقومات النظام الديموقراطي، بما في ذلك التداول السلمي على السلطة      .
تعرض الإسلام ولا يزال مثل غيره من الأيديولوجيات بما في ذلك مبادئ حقوق الإنسان والديموقراطية والمجتمع المدني، لتأثيرات الجهل أو التحامل أو الرغبة المصممة في التطويع والتوظيف من قبل حكومات طاغية وجهات مغرضة ليتحول مجرد أداة بل ربما «أبرز المعوقات الثقافية لنشر واحترام الثقافة والشرعية الحقوقية في العالم العربي والغطاء الديني الذي تضفيه بعض الحكومات والجماعات الدينية وبعض المؤسسات الدينية الرسمية وقياداتها على الانتهاكات المستمرة للحريات الأساسية في العالم العربي أو على تحفظات الحكومات على الاتفاقيات والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان»، كما ورد في الورقة التأطيرية لهذه الندوة.
ورغم التجزئة السياسية التي فرضها ميزان القوة الدولي على الأمة الإسلامية، فلا هي توحدت على العقيدة كما كانت لأطول فترات تاريخها ولا توحدت حتى شعوباً على أساس المصالح، وبالخصوص العرب الذين فرض عليهم مستوى أتعس من التجزئة، ورغم أنه قد بذلت جهود جبارة لاصطناع أسس ثقافية تعطي مشروعية لهذه التجزئة فإن مشاعر الوحدة الإسلامية لا تزال قوية بين المسلمين تبدو بالخصوص عند الكوارث، فيتحول المسلمون قلباً واحداً يبكي المنكوب.
هوية جامعة
وقد ظل الإسلام ينهض بتوحيد يتجاوز العقيدة إلى الشعور بالهوية الواحدة الجامعة لكل معتنقيه وإلى الثقافة والفكر ورؤية الذات ماضياً ومستقبلاً، في إطار تلك الهوية الموحدة، على نحو لا يبدو معه يسيراً إقامة معالم واضحة لفكر إسلامي قومي يناظر الدول القومية القائمة أو حتى اللغات الناطقة، بله إقامة فواصل واضحة بين فكر إسلامي عربـي وآخر إسلامي غير عربـي، وهي مسلمة أساسية قامت عليها بعض النقاشات، افترضت دون برهان أن المفكرين المجددين في العالم العربـي يعانون من محدودية التأثير وربما الانعزالية»، وذلك مقابل ما حققه المسلمون في آسيا وأفريقيا وأوروبا من تجديد نسبـي لخطاباتهم الدينية انعكس بدرجات متفاوتة على نشر واحترام ثقافة حقوق الإنسان بين مسلمي العالم غير العربـي.
وأياً كان التقدير لتجديد الخطابات الدينية في العالم الإسلامي غير العربـي فإن المقارنة بالعالم غير العربـي لن تكون لمصلحة هذا الأخير، حتى لو سلمنا بصحة الفرضية، والمشكل أن العالم العربـي يعاني من نقص كبير في مدى معرفته بما حققه المسلمون في آسيا وأفريقيا وأوروبا من تجديد نسبـي لخطاباتهم الدينية، وأعجب ما في الأمر أن العالم العربـي لا يزال يتعامل مع خطاباته الإسلامية بوصفها مركزاً للفكر الإسلامي، فما صدقية هذه الفرضيات؟
أ- ليس من اليسير أن نظفر عند مسح منتوج الفكر الإسلامي على امتداد عالم الإسلام بفواصل قومية تميز شعباً من شعوب المسلمين بله دولة من دولهم، بمذهب إسلامي يتماهى مع ذلك الشعب أو تلك الدولة، بقدر ما نجد أنفسنا إزاء مدارس فقهية وعقيدية وحركات إسلامية هي امتداد للماضي أو مستحدثة، ليس منها مدرسة تتماهى مع دولة حتى أصغرها مثل المذهب الإباضي، فرغم أنه المذهب الرسمي لدولة عمان فإن أكثر من ثلث السكان على مذاهب سنية وربما كان عدد إباضيي الجزائر أكبر من مثلهم في عمان مع وجود أتباع المذهب في بلاد كثيرة.
ويصدق ذلك على بقية المذاهب الإسلامية السنية والشيعية موزعة في الأمة على امتداد القارات الخمس اليوم. ومعظم مسلمي أوروبا هم امتداد لأصولهم العرقية والمذهبية في البلاد الإسلامية لا يتمايزون عنها حتى الآن بشيء يذكر.
ب-ولا يختلف أمر المذاهب الموروثة عن حال مدارس التجديد الحديثة في عالم الإسلام، ليس هناك مركز وأطراف، وإنما هناك فضاء ثقافي عقدي لا يكاد يعترف بما فرض من حواجز سياسية، إذ يتعلق الأمر بالتعامل مع الإسلام، شأن المسلمين عندما يطوفون حول البيت الحرام، تختفي أو تكاد الحواجز بينهم، فلا يبقى من نداء غير نداء التوحيد، لبيك اللهم لبيك، وتتشابه المظاهر إلى أبعد الحدود حتى لكأنهم كيان واحد.
فكر معولم
بشيء من التجوز نستطيع أن ندعي أن الفكر الإسلامي معولم إلى حد كبير، إنه سوق حرة لا تتوسطها كنيسة تفرض على المسلم وساطة محددة في التوجه إلى ربه، فكل مسؤول عن خياره، هم يعلمون أن ختم النبوة أنهى كل وصاية على البشر، وجعل من كل مسلم خليفة لله ورسوله مسؤولاً عن دينه أمام الله عز وجل، فعليه أن «يجتهد» وسعه في معرفة الطريق إلى ربه، وسيجد نفسه وسط مذاهب كثيرة وسيستمع إلى أصوات كثيرة تجتذبه إليها، وعليه وحده تقع مسؤولية الاختيار «الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه» (الزمر:18) يستمع لكل قول ويستفتي قلبه ليتبع ما يهديه إليه اجتهاده، تلك مسؤوليته.
المكتبة الإسلامية لا تعرض الإسلام دولاً وشعوباً وإنما مدارس، لذلك قد تجد مفكراً إسلامياً مقروءاً خارج الدولة التي نشأ فيها أكثر مما هو مقروء في دولته، الإمام مالك بلغة اليوم سعودي ولكنه متبوع في أفريقيا، ومالك بن نبـي الجزائري أحسب أنه قرئ في تونس، تأثرنا بتراثه أكثر مما تأثر به الجزائريون، وربما نكون تأثرنا بالمفكر الإيراني علي شريعتي أكثر مما تأثر به الإيرانيون، بالخصوص بعد الثورة التي همشته لمصلحة فكر المراجع الرسمية. كما أن كتب المفكر السوداني حسن الترابـي وراشد الغنوشي التي ترجمت إلى التركية أثرت في الحركة الإسلامية التركية أكثر مما أثرت في بلاد عربية.
ج-للوقوف على سر انتشار هذا الفكر هنا وضموره هناك لا مناص من الوقوف على حاجات واقع محدد ومطالبه والتحديات التي يطرحها على الإسلاميين في تلك البيئة، فالإسلاميون الذين نشأوا في وسط تسود فيه تحديات من نوع فكري علماني اجتماعي سيبحثون عن بضاعة فكرية إسلامية عقلانية تستجيب ذلك التحدي، بينما مسلمون آخرون في قلب جزيرة العرب في نجد مثلاً ليس مطروحاً عليهم مثل ذلك التحدي ستكون قضاياهم من نوع آخر، مثل التدقيق والتنخيل في جزئيات العقائد وقضايا البدع.
تحديات تونس
الحركة الإسلامية في تونس مثلاً منذ ولادتها في بداية سبعينات القرن الماضي محاطة ببيئة فكرية معلمنة لم تطرح على نفسها قضايا الشريعة، لأن الإسلام نفسه من حيث كونه عقيدة وشعائر وهوية كان في الميزان والشك في إطار دولة شديدة العلمنة والتسلط، فلم يكن عجباً أن يجيء طرح مثل هذه الحركة للإسلام فكرياً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، إثباتاص لجدارته في ساحة الجدل مع المذاهب المادية المطروحة واستيعاباً للمطالب المطروحة في الساحة السياسية نضالاً ضد الاستبداد لمصلحة بديل ديموقراطي ودعماً للحركة النقابية العمالية ضد الجشع الرأسمالي وتأصيلاً لدور المرأة في معركة النهوض الشاملة،وكلها تحديات مطروحة في السوق التونسية.
لم يكن بد للحركة الإسلامية من أجل دخول السوق وإثبات جدارتها فيها دون تقديم رؤاها وبدائلها منطلقة من الإسلام مستجيبة للتحديات، وإلا نبذها السوق، فكان عليها أن تطور فكرها الذي ورثت جوانب منه عن فكر مشرقي ليست مطروحة عليه نفس تلك التحديات، فدلفت إلى السوق الإسلامية تبحث فيه عن مواد مخصوصة تستجيب تحدياتها المطروحة عليها، وانصرفت عن مواد أخرى لا تتصل باهتماماتها.
مثلاً، في فكر الترابـي عن دور المرأة وتأصيل الديموقراطية، وفي فكر شريعتي الأيديولوجي، وفي طرح الخميني للإسلام أنه ثورة المستضعفين، وفي فكر ابن نبـي الاجتماعي في تحليل ظاهرة الحضارة، وفي فكر باقر الصدر الاقتصادي، وجدت في كل ذلك مواد صالحة وأسلحة مجدية لخوض هذه المعارك الدائرة في بيئتها. وفي ضوئها أقبلت على القيام بمراجعة فكرها وتطويره للاقتدار على استيعاب تحديات الواقع في منظورات وقوالب إسلامية، مثّلت تجربة مبكرة في تبني القضايا الأساسية في الفكر الإنساني مثل الديموقراطية نظاماً للحكم ونهجاً في التغيير، وكذا حقوق الإنسان ومنها حقوق النساء وحقوق الأقليات والنضال العالمي ضد قوى الهيمنة، وهو ما أهلنا للقاء مع مطالب العمال ومطالب الحركة الديموقراطية وقضايا تحرر المرأة والتحمس في وقت مبكر لحركة النضال ضد التمييز العنصري، هذا المنتج الفكري جاء ثمرة لتفاعل مع واقع معين يطرح تحديات معينة.
بينما الذين لم يكونوا يعيشون ذلك الواقع عندما فاجأتهم هذه الأطروحات في بداية الثمانينات تجهموا في وجهها واستوحشوها، بل ضللنا بعضهم وإن تناقصوا بمرور الزمن فلم تعدم الساحة بقاياهم، في حين تفاعل معها أقوام آخرون يجابهون تحديات مماثلة في المغرب الأقصى مثلاً وفي تركيا وفي إندونيسيا فأقبلوا على ترجمتها، بينما الذين كتبت بلغتهم استوحشوها ولم يأخذوا في الإقبال عليها إلا في فترات لاحقة بعد سلسلة من المحن فرضت عليهم أن يقبلوا التفاعل والعيش في واقع تعددي.
د-قد يغري التمييز بين عالم إسلامي عربـي وآخر غير عربـي كما ذهب إلى ذلك مفكر ومؤرخ فرنسي حديث في كتابه «موعد مع الإسلام» اعتبر فيه أن إصلاح الإسلام حتى يستوعب قيم الحداثة ويتصالح مع الديموقراطية سيبدأ من خارج العالم العربـي الذي هو ميؤوس منه بسبب هيمنة الأصولية السنية عليه وليدة فشل القومية في توحيد العرب ما أدى إلى نـزعة فاشية عدوانية أفرزت ابن لادن، وأن العلاج سيأتي من خارج العالم العربـي من تركيا وإيران».
قد يغري بهذا التمييز ما يلاحظ من نجاح ديموقراطي نسبـي في العالم الإسلامي غير العربـي مقابل فشل ديموقراطي عربـي واضح، وهذه حقيقة كشفتها مؤشرات تنموية كثيرة أحلت العالم العربـي في مؤخرة ركب الأمم، حتى ليصح القول إن معظم المسلمين وهم غير عرب يتمتعون بمستوى من مستويات الحياة الديموقراطية خلافاً لمعظم العرب الذين يرزحون تحت حكم أنظمة أقرب إلى الفاشية. أيعود الأمر إلى بنية مخصوصة في العقل العربـي كما يزعم البعض أم هو ثمرة لفشل المشروع القومي ما أورث العرب أزمة وظهور نـزعات فاشية؟
موقع العرب
هـ- تفسير الفشل القائم بالإعاقة الذاتية الأنطولوجية التكوينية هو تفسير عنصري دحضته العلوم دحضاً، فالبشر كلهم يتوافرون على قابليات للتحضر إذا توافرت لهم الظروف المناسبة، فعلينا البحث في ظروفهم الموضوعية لتفسير ما يصيبون من نجاح أو فشل وليس عن جيناتهم البيولوجية أو الثقافية.
وانطلاقة العرب الأولى يوم استنارت قلوبهم برسالة الإسلام وكانوا أبعد الناس عن التحضر شاهدة على ذلك، وكذا شعوب كثيرة قديمة وحديثة. وكذا الانطلاقة المعاصرة لشعوب آسيوية تعبد الأبقار أو الأحجار. أما تفسير الفشل التحديثي أو الديموقراطي بفشل المشروع القومي في توحيد أمة العرب وفي إرساء نظام ديموقراطي حديث، ما أورثها نـزوعات فاشية عدوانية جعلها ميؤوساً منها فهو من باب تفسير الشيء بذاته، هم فاشلون في التحديث والديموقراطية لأنهم فاشلون فيهما.
أما التفسير الأقرب إلى العلمية فهو الذي يلقي الضوء على موقع العرب في الإستراتيجية الدولية الإمبريالية من حيث منزلتهم في الإسلام القيادية، ومن حيث وقوعهم في عقدة التواصل بين القارات، ومن حيث توافر أرضهم على الطاقة التي تحرك العالم، ما اقتضى تصميماً دولياً على إعاقة كل محاولة لوحدتهم القومية أو لنهوضهم الإقليمي والحضاري، وما اقتضته من غرز الكيان الصهيوني في القلب منهم عاملاً آخر لضمان التعويق.
ونظرة واحدة لمحاولات نهوضهم منذ تجربة محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر حتى أيامنا هذه تكشف بوضوح عن قرار دولي بإعاقة كل مشروع نهضوي أياً كان الفريق الذي يقودهم علمانيا أم إسلامياً أو اشتراكياً. هذه تفاصيل لا تهم الإستراتيجي الغربـي، فضلاً عما يجد الكيان الصهيوني من دعم ثابت وما تجد الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة من دعم لاستمرار تسلطها على شعوبها، مقابل ما وجدت مشاريع التحول الديموقراطي في العالم من دعم غربـي، والموقف الرافض لأنظف عملية ديموقراطية جرت في المنطقة، أعني الانتخابات الفلسطينية الأخيرة شاهد حديث.
المدرسة التركية
و-أما النجاح الديموقراطي النسبـي في عالم الإسلام غير العربـي، فتفسيره ليس عائداً إلى توافر قدر من فكر التجديد هناك لم يستوعبه العرب جهلاً أو استعلاء، منبعثاً من نوع مركزية عربية سائدة، فذلك تفسير عجول، فقد سبق منا القول إن الإسلام سوق دولية لا تعرف فيها البضائع بالمنشأ وإنما بالجدارة والنفع، وقد يحسب للأتراك أنهم من أنشط شعوب المسلمين في مجال الترجمة، ولذلك تنتشر بينهم كتابات المكتبة الإسلامية المعروفة بمختلف مدارسها، سواء التراثية أو الحديثة، حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب وسعيد حوى ومالك بن نبـي وحسن الترابـي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وراشد الغنوشي، كما ترجموا كثيراً من الكتابات الإيرانية.
والملاحظ هنا أن المدرسة التركية لم تتميز بإنتاج فكري محدد بقدر ما تميزت بالنـزعة البراغماتية العملية، فهي تأخذ من الأفكار ما يناسب أوضاعها، وهي على علم دقيق بالسقف الذي تتحرك تحته، وقد تدرك في ظروف محددة كالتي قادت إلى تدخل الجيش وعزل البروفسور نجم الدين أربكان من السلطة وحل حزبه، أن السقف الذي وضعه أعلى مما يطيق الواقع فتنـزل به درجة أو درجات وتعيد صياغتها التنظيمية، ولكن، أعجب ما في الأمر أنها لا تنشغل مثل العرب بالجدل النظري حول الشريعة وما هو ملزم وما هو غير ملزم.
إنها عندما تنزل بسقف مطالبها لا تنزل بسقف الإسلام حتى يتواءم مع ما يطيق الواقع، وإنما فقط تنزل درجة أو أكثر بمستوى مطالبها العملية، أي ما هو مقدور على تطبيقه من الإسلام، أي أنها لا تقدم تنازلات نظرية كما فعلت العلمانيات الغربية وكما يتوهم بعض العلمانيين العرب، فيتصورون أن للإسلاميين الأتراك إسلاماً خاصاً علمانياً يختلف عن إسلام العرب الأصولي، وهو محض توهم، فلم يسجل على الأتراك أنهم أسسوا نظرياً لإسلام علماني أسقطوا منه الشريعة كلاً أو جزءاً، وإنما هم يعملون في ظل توجيهات الإسلام الواقعية: أن المسلم مكلف أن يطبق من الإسلام ما يستطيع، وفقاً للتوجيه النبوي «ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»، فهم متفاعلون مع بيئتهم مدركون سقوفها ويتحركون وفقها، وذلك ما يفسر اقتصادهم في التنظير، فكان تجديدهم في الحقيقة تجديداً عملياً.
المدرسة التركية مدرسة عملية لم تطرح على نفسها المهمة التي نسبها اليهم الفرنسي آدلير «إصلاح الإسلام» تركوا تلك المهمة لمثله ولتلاميذه العرب، أما هم فقد شغلوا أنفسهم بإصلاح واقعهم في ضوء ما يطيق من التطبيق الإسلامي، لأنهم مع كل المسلمين يؤمنون بحقيقة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان وما هو في حاجة لإصلاح.
والإيرانيون أنفسهم لم يمنعهم تشيعهم من الإفادة من فكر الإصلاح السني، فأهم الكتابات الإسلامية العربية مترجمة إلى الفارسية، كما أن كتابات أساسية إسلامية فارسية ترجمت إلى العربية، مثل كتابات علي شريعتي والخميني وشريعتمداري وغيرها، وكذا كتابات أبو الحسن الندوي من الهند وأبو الأعلى المودودي ومحمد إقبال من باكستان.
يبدو التناقض واضحاً في مقولة تقدّم الفكر الإسلامي غير العربـي على مثيله العربـي وزهد الإسلاميين العرب في الترجمة لفكر إخوانهم اعتداداً واستعلاء بمركزيتهم، فقد تأثر واحد على الأقل، من أشهر، إن لم يكن الأشهر على الإطلاق من بين المفكرين الإسلاميين العرب، سيد قطب، بفكر المودودي، وهو أشهر مفكري الإسلام في شبه القارة الهندية، الذي عده ماكسيم ردودنسون منظم الإسلام أي الذي صاغ الإسلام نُظُماً.
الملاحظ هنـا أن معظــــم كتابات المودودي ترجمــت وطبعت مرات في العالم العربـي، ولم تمنع مركزيـــة العرب أن يتأثروا بالمودودي لدرجة التبعية، ليجني العالم العربـي نتيجة ذلك أفكاراً تكفيرية للأنظمة والمجتمعات ودوامات متتالية من العنف، حتى أصبحت غطاء لعنف الكثير من الجماعات الإســـلامية في سبيل استعادة الدولة الإسلامية، ذلك أن أفكــــار المــــودودي على طرفي نقيض مع المنظومة الحقوقية، ووجدت في العالم العربـي تربة خصبة، وتخطت آثارها الدموية إلى الآخر الحضاري.
ولا يتسع المجال لمناقشة هذه الأحكام العجلى بل الظالمة للمودودي وتحويله إلى فرانكنشتاين أو دراكولا، وتكفي شهادة على خطل هذا التأويل للمودودي وتحويله كبش فداء، أن الرجل لا يزال الموجه الرئيسي إن لم يكن الوحيد للحركة الإسلامية في شبه القارة الهندية، الهند وباكستان وبنغلاديش وسريلانكا والنيبال، حيث توجد فروع للجماعة الإسلامية مع امتداداتها في المهاجر الغربية.
وتعد كتابات المودودي المادة التربوية الأساسية إن لم تكن الوحيدة لكل هذا الامتداد الحركي الذي لم يعرف عنه قط لجوء إلى طرائق العنف رغم الاضطهاد النسبـي الذي تعرضوا له على امتداد 65 سنة من عمر الجماعة الإسلامية، وليس ذلك مجرد سلوك عملي بل كتابات الرجل واضحة بلا غبش في رفض العنف سبيلاً للتغيير.
وقد دافع المودودي في «الدستور الإسلامي» عن مجتمع ديموقراطي تعددي يتمتع فيه غير المسلم بحق الاعتقاد والدعوة إليه، حتى وإن أفضى ذلك إلى كفر بعض المسلمين، فتبعة ذلك لا تعود إليه وإنما إليهم.
أما فكرة الجاهلية والقومية فقد ترجمت في العالم العربـي في سياق آخر غير السياق الذي طرحت فيه في الهند، طرحت هناك لخدمة أقلية مسلمة تشعر بخطر على هويتها وسط أكثرية غير مسلمة بما يجعلها حريصة على التميز، رغم أن المودودي كان ضد انفصال باكستان عن الهند، إذ كانت فكرة الانفصال فكرة الرابطة الإسلامية، وهي منظمة علمانية.
فلما نقلت هذه الفكرة إلى العالم العربـي لاقت سياقاً آخر، سياق الصراع المحموم الذي اندلع في مصر في بداية الخمسينات، وكان في جوهره صراعاً على السلطة، استخدمت فيه كل الأسلحة التي كانت في يد الطرفين، أحدها استخدم قوة الدولة لاستئصال خصمه، والآخر استخدم قوة العقيدة والفكرة للدفاع عن وجوده المهدد، رغم أن مؤسسة الإخوان الرسمية تصدت في غياهب السجون وفي أحلك ليالي المحنة لفتنة تكفير السلطة، وهي العمود الفقري لتسويغ الخروج المسلح.
إن ما حصل ويحصل من تطرف وعنف وترهيب مما لا يستحق أقل من الإدانة، بصرف النظر عن نوع معتقد الفاعل واتجاهه دينياً كان أم علمانياً، لا يمكن أن يفهم ولا ما تأسس عليه من أفكار ومذاهب خارج الظروف الموضوعية التي حصل فيها، وإلا فلماذا انتجت أفكار المودودي كل هذه الشرور المنسوبة إليها -إن صحت- ولم تنتج شيئاً من ذلك في منبتها الأصلي؟
تبقى كلمة لا مناص من ذكرها حول موضوعة التجديد، حيث إن أهل التجديد في العالم العربـي يعانون من محدودية التأثير وربما الانعزالية أو الإقصاء رغم جهودهم الهائلة بسبب نجاح من يعادون التجديد في تشويه الدعوة إليه وتشويه أهلها، والعرب ينقصهم الاطلاع على التجديد الحاصل في العالم الإسلامي غير العربـي.
يبدو أن التجديد المقصود هنا ليس هو التجديد في اصطلاح علماء الإسلام، الذي محصوه تمحيصاً بسبب وروده في حديث شهير بشر الأمة بأن الله تعهد ألا يصيبها القدم والهرم، بل تظل تتجدد وتشبّب، فكلما اعترتها الشيخوخة وتباطأت حركتها ودب فيها الفساد أرسل الله من يتولى تجديدها وضخ دماء جديدة في شرايينها.
علماء الإسلام مجمعون على أن التجديد المقصود ليس بحال تغييراً للدين بالحذف أو الإضافة أو التأويل السائق له إلى السير مع كل فكرة أو ممارسة تتفشيان في حياة الناس، مهما كان تصادمها مع أصول الإسلام وثوابته، بما يجعله تابعاً لا متبوعاً، محكوماً لا حاكماً. كلا، فهذا الدين كلمة الله الأخيرة، فما يرضى إلا موقع السيادة والقيومية على الحياة.
التجديد المطلوب إسلامياً هو نفض غبار التاريخ ونفايات الواقع عن حقائق الإسلام وإماطة ضروب الغلو والتشويه التي تكون قد ألصقت به.
والمجددون المسلمون في عصرنا ليسوا بحال معزولين، بل هم أبرز قوى التأثير في الساحة على كل الصعد الفكرية والسياسية والمجتمعية. فهل من شخصيات اليوم أكثر تأثيراً في الساحة من الشيخ حسن البنا ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وسيد قطب وحسن الترابي وأحمد ياسين وعبد السلام ياسين وسلمان العودة وعائض القرني ومحمد حسين فضل الله ونصر الله والخليلي ... وأمثالهم، هؤلاء هم إذا دعوا الأمة لبت وإذا استنفروها نفرت، فهم بحق القادة، فبأي معنى يمكن وصفهم بالعزلة وقلة التأثير، اللهم إلا أن يكون غيرهم هو المقصود بالتجديد ممن استهدفوا ليس تجديد الإسلام وإنما تغييره، بافتراض علة الفساد كامنة فيه، كما يدعي غلاة المحافظين الجدد وعتاة الاستشراق الصهيوني، مثل برنارد لويس ودعاة الحرب الحضارية.
فإذا كان التجديد المطلوب للإسلام هو إصلاحه بهذا المعنى، وكان من رموزه السياسية أتاتورك وبورقيبة وشاه إيران، ومن رموز تفسيره أركون ونصر أبو زيد وعبد المجيد الشرفي وسلمان رشدي، فهؤلاء هم فعلاً معزولون عن الجماهير تلاحقهم الشبهات بعد أن ألجأهم المجددون الحقيقيون ممن ذكرنا إلى جحر الضب، إذا كان التجديد كذلك، فهو إلى خيبة محققة وفشل مضمون بشهادة الواقع وأبلغ من ذلك شهادة رب العزة الذي تعهد بحفظ دينه «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجر:9).
* زعيم حركة النهضة التونسية، حزب الغالبية في حكم ما بعد الثورة، والنص مقطع من كتابه الجديد «الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام» الذي يصدر قريباً عن الدار العربية للعلوم - ناشرون في بيروت ومركز الجزيرة للدراسات في الدوحة.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire